فصل: (فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ):

قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ نَصْرَانِيٌّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَقَالَتْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَالْقول قول الْوَرَثَةِ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقول قولهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ.
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ فِيمَا مَضَى تَحْكِيمًا لِلْحَالِ كَمَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ نَعْتَبِرُهُ لِلدَّفْعِ؛ وَمَا ذَكَرَهُ يَعْتَبِرُهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ؛ وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَجَاءَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقول قولهُمْ أَيْضًا، وَلَا يُحَكَّمُ الْحَالُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ، أَمَّا الْوَرَثَةُ فَهُمْ الدَّافِعُونَ وَيَشْهَدُ لَهُمْ ظَاهِرُ الْحُدُوثِ أَيْضًا.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ):
(وَإِذَا مَاتَ نَصْرَانِيٌّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَقَالَتْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ) فَأَنَا أَسْتَحِقُّ فِي مِيرَاثِهِ (وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ) بَلْ (أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ) فَلَا مِيرَاثَ لَك (فَالْقول قول الْوَرَثَةِ) كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بَدَلُ قولهِ فَالْقول قول الْوَرَثَةِ لَا تُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ مَنْ كَانَ الْقول لَهُ يَكُونُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا حَلِفَ عَلَيْهِمْ إلَّا إنْ ادَّعَتْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كُفْرَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَهَا أَنْ تُحَلِّفَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ (وَقَالَ زُفَرُ: الْقول لَهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ فَـ) الظَّاهِرُ (إضَافَتُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ. وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ) مِنْ الْمِيرَاثِ (ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ فِيمَا مَضَى تَحْكِيمًا لِلْحَالِ كَمَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ) هُوَ اسْتِصْحَابٌ: أَعْنِي اسْتِصْحَابَ الْمَاضِي لِلْحَالِ (نَعْتَبِرُهُ لِلدَّفْعِ، وَمَا ذَكَرَهُ) اسْتِصْحَابُ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ يَكُونُ مِنْ الْمَاضِي لِلْحَالِ وَمِنْ الْحَالِ إلَى الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ (اعْتَبَرَهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ) وَلَيْسَ حُكْمُ الِاسْتِصْحَابِ كَذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِجَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ مَا إذَا اخْتَلَفَ مَالِكُهَا مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا طَالَبَهُ بِمُدَّةٍ فَقَالَ: كَانَ الْمَاءُ مُنْقَطِعًا حُكْمُ جَرَيَانِهِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْحَالِ فَيُعْطَفُ عَلَى الْمَاضِي لِدَفْعِ اسْتِحْقَاقِ أُجْرَةِ الْمَاضِي فَكَذَا هَذَا، وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِصْحَابِ أَحْسَنُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالظَّاهِرِ، فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ ظَاهِرًا كَأَخْبَارِ الْآحَادِ قَدْ أَثْبَتَ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقًا (وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَجَاءَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقول لَهُمْ أَيْضًا وَلَا يُحَكَّمُ الْحَالُ) هُنَا (لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ، أَمَّا الْوَرَثَةُ فَهُمْ الدَّافِعُونَ) وَالِاسْتِصْحَابُ يَكْفِي لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِصْحَابُ مَا فِي الْمَاضِي مِنْ كُفْرِهَا إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْمَسْأَلَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ اُعْتُبِرَ فِيهِمَا لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ: اعْتِبَارُ الْحَالِ فِي مَاءِ الطَّاحُونَةِ شَاهِدًا لِلْمَاضِي عُمِلَ بِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالِاسْتِصْحَابِ فَإِنَّ بِهِ يَسْتَحِقُّ مَالِكُهَا أَجْرَ الْمَاضِي إذَا كَانَ جَارِيًا.
أُجِيبَ بِأَنَّ هُنَاكَ اتَّفَقَا عَلَى وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْعَقْدُ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّأْكِيدِ، وَالظَّاهِرُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلتَّأْكِيدِ.
فِي مَسْأَلَةِ الْمِيرَاثِ نَفْسُ السَّبَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ مَعَ اتِّفَاقِ الزَّوْجَيْنِ فِي الدِّينِ عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا مَاتَ أَبِي مُسْلِمًا وَقَدْ كُنْت مُسْلِمًا حَالَ حَيَاتِهِ وَقَالَ الْآخَرُ صَدَقْت وَأَنَا أَيْضًا أَسْلَمْت حَالَ حَيَاتِهِ وَكَذَّبَهُ الِابْنُ الْمُتَّفَقُ عَلَى إسْلَامِهِ وَقَالَ بَلْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقول لِلِابْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَى إسْلَامِهِ، وَلَمْ يُجْعَلْ الْحَالُ حُكْمًا عَلَى إسْلَامِهِ فِيمَا مَضَى مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ فِي الْحَالِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الطَّرِيقِ إذَا اخْتَلَفَا فِي تَمَامِ الْمَاضِي فِي ثُبُوتِ مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْحَالِ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارٍ مِنْهُ فَلَا يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ الْحَالِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا، حَتَّى إنَّ فِي مَسْأَلَةِ الطَّاحُونَةِ إذَا اتَّفَقَا عَلَى الِانْقِطَاعِ فِي بَعْضِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ بِأَنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ الْمَاءُ مُنْقَطِعًا شَهْرَيْنِ وَقَالَ الْآخَرُ شَهْرًا فَالْقول لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ مُنْقَطِعًا كَانَ الْمَاءُ أَوْ جَارِيًا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي جَرَيَانِ مُقَدَّرٍ هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْحَالِ.
وَفِي مَسْأَلَةِ الِابْنَيْنِ وَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ الِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْإِسْلَامِ لَا فِي نَفْسِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَالثَّابِتُ فِي الْحَالِ نَفْسُ الْإِسْلَامِ لَا إسْلَامٌ مُقَدَّرٌ فَهَذَا هُوَ الْمَأْخَذُ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ مَسْأَلَةً وَهِيَ تَرُدُّ أَيْضًا شُبْهَةً عَلَى الْأَصْلِ: أَعْنِي كَوْنَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَثْبُتُ بِالظَّاهِرِ؛ وَهُوَ لَوْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَبَانَهَا فِي الْمَرَضِ فَصَارَ فَارًّا فَأَنَا أَرِثُ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ بَلْ فِي الصِّحَّةِ فَالْقول قولهَا لِأَنَّهَا أَنْكَرَتْ الْمَانِعَ مِنْ الْإِرْثِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الصِّحَّةِ: يَعْنِي وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَانِعِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ هَذَا ابْنُ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْوَارِثِ خِلَافَةً فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حَقُّ الْمُوَرِّثِ وَهُوَ حَيٌّ أَصَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ بِالْقَبْضِ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقِيَامِ حَقِّ الْمُودِعِ إذْ هُوَ حَيٌّ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا أَقَرَّ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ (فَلَوْ قَالَ الْمُودَعُ لِآخَرَ هَذَا ابْنُهُ أَيْضًا وَقَالَ الْأَوَّلُ لَيْسَ لَهُ ابْنٌ غَيْرِي قَضَى بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ) لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ انْقَطَعَ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي، كَمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ ابْنًا مَعْرُوفًا، وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فَصَحَّ، وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي لَهُ مُكَذِّبٌ فَلَمْ يَصِحَّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ) مَثَلًا (وَدِيعَةً فَأَقَرَّ الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ) فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ (لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْوَارِثِ) مِلْكٌ لَهُ (خِلَافَةً فَهُوَ كَمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حَقُّ الْمُوَرِّثِ وَهُوَ حَيٌّ أَصَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ) الْمُودَعُ (لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ بِالْقَبْضِ) أَيْ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ (أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ) أَيْ اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ الَّتِي فِي يَدِهِ مِنْ الْمُودِعِ (حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقِيَامِ حَقِّ الْمُودِعِ) وَمِلْكِهِ فِي الْوَدِيعَةِ الْآنَ (إذْ هُوَ حَيٌّ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ) لِزَوَالِ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمِلْكِهِ لِمَا فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ مِلْكِ مَالِكٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ لِلْحَالِ وَفِي فَصْلِ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمُودِعِ لَكِنْ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ: أَعْنِي الْمَالِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ مِلْكِهِ بِإِقْرَارِهِ فَصَارَ كَالْإِقْرَارِ بِالْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ لَوْ دَفَعَ إلَى الَّذِي اعْتَرَفَ لَهُ بِالْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ هَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا؟ قِيلَ لَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ.
وَقَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ كَانَ وَالِدِي يَتَرَدَّدُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ الْوَدِيعَةَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالْوَكَالَةِ حَتَّى هَلَكَتْ قِيلَ يَضْمَنُهَا لِأَنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ وَكِيلِ الْمُودِعِ فِي زَعْمِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَنَعَهَا مِنْ نَفْسِ الْمُودِعِ، وَقِيلَ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الدَّفْعُ (بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الدَّائِنِ بِقَبْضِ مَالِهِ عَلَيْهِ) فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ (إذًا الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا) وَالْمِثْلُ مِلْكُ الْمُقِرِّ (فَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ) حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ الدَّائِنُ إذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْوَكَالَةِ إذَا قَدِمَ (فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ. وَلَوْ قَالَ الْمُودَعُ لِآخَرَ هَذَا ابْنُهُ أَيْضًا وَأَنْكَرَ الِابْنُ الْأَوَّلُ قُضِيَ بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ) وَحْدَهُ (لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ) عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ (انْقَطَعَ يَدُهُ عَلَى الْمَالِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى) الْغَيْرِ وَهُوَ الِابْنُ (الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ ابْنًا مَعْرُوفًا، وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فَصَحَّ، وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي لَهُ مُكَذِّبٌ) وَهُوَ الْأَوَّلُ (فَلَا يَصِحُّ) وَهَلْ يَضْمَنُ لِلِابْنِ الثَّانِي شَيْئًا.
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: إنَّهُ لَا يَغْرَمُ الْمُودَعُ لِلِابْنِ الثَّانِي شَيْئًا بِإِقْرَارِهِ لَهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لَمْ يَثْبُتْ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّلَفُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ ثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ ثُبُوتُ الْإِرْثِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْبُنُوَّةِ إقْرَارًا بِالْمَالِ.
وَفِي الدِّرَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَغَيْرِهِمَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ نِصْفَ مَا أَدَّى لِلِابْنِ الثَّانِي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ إذَا دَفَعَ الْوَدِيعَةَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي.
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قول وَأَحْمَدُ فِي قول، وَفِي قول لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لِلثَّانِي صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ الْمُودَعُ لِلِابْنِ الثَّانِي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ كَمَا لَوْ بَدَأَ الْمُودَعُ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْقَاضِي إلَيْهِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِلْقَاضِي قِيمَتَهُ.
قُلْنَا: هُنَا أَيْضًا يَضْمَنُ إذَا دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى الِابْنِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي نِصْفَ مَا أَدَّى إلَى الْأَوَّلِ انْتَهَى.
وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
وَاخْتُلِفَ فِي اللُّقَطَةِ إذَا أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ بِهَا لِرَجُلٍ هَلْ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ؟ مَذْكُورٌ فِي اللُّقَطَةِ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ ادَّعَى الْوِصَايَةَ وَصَدَّقَهُ مُودِعُ الْمَيِّتِ أَوْ الْغَاصِبُ مِنْهُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ، هَذَا كُلُّهُ فِي الِابْنِ، فَلَوْ أَقَرَّ الْمُودَعُ لِرَجُلٍ أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ شَقِيقُهُ وَأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ يَدَّعِيهِ أَوْ لِمَنْ ادَّعَى وَصِيَّةً بِأَلْفٍ مَثَلًا أَنَّهُ صَادِقٌ فَالْقَاضِي يَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَخِ بِشَرْطِ عَدَمِ الِابْنِ، بِخِلَافِ الِابْنِ لِأَنَّهُ وَارِثٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ غَيْرَ أَنَّهُ احْتَمَلَ مُشَارَكَةَ غَيْرِهِ وَهُوَ مَوْهُومٌ وَالْبِنْتُ كَالِابْنِ وَفِي الْوَصِيَّةِ هُوَ مُقِرٌّ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَلَفٍ عَنْ الْمَيِّتِ، إذَا تَأَنَّى إنْ حَضَرَ وَارِثٌ آخَرُ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْمَيِّتِ وَكَانَ الْقول قولهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ وَارِثٌ آخَرُ أَعْطَى كُلَّ مُدَّعٍ مَا أَقَرَّ بِهِ لَكِنْ بِكَفِيلٍ ثِقَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا أَعْطَاهُ الْمَالَ وَضَمِنَهُ إنْ كَانَ ثِقَةً حَتَّى لَا يَهْلَكُ أَمَانَةً، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ تَلَوَّمَ الْقَاضِي حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ، أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ ثُمَّ يُعْطِيهِ الْمَالَ وَيَضْمَنُهُ، وَلَمْ يُقَدِّرْ مُدَّةَ التَّلَوُّمِ بِشَيْءٍ بَلْ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَهَذَا أَشْبَهَ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا مُقَدَّرٌ بِحَوْلٍ، هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ الْأَقْضِيَةِ.
قَالَ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مُقَدَّرٌ بِشَهْرٍ، هَذَا إذَا قَالَ ذُو الْيَدِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ قَالَ لَهُ وَارِثٌ وَلَا أَدْرَى أَمَاتَ أَمْ لَا لَا يَدْفَعُ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا لَا قَبْلَ التَّلَوُّمِ وَلَا بَعْدَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً تَقول لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَكُلُّ مَنْ يَرِثُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَالْأَخِ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ كَالِابْنِ؛ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخُو الْغَائِبِ وَأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ أَوْ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَمَّةُ الْمَيِّتِ أَوْ خَالَتُهُ أَوْ بِنْتُ أَخِيهِ وَقَالَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرِي وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ أَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَوْ ثُلُثِهِ وَصَدَّقَهُمَا ذُو الْيَدِ وَقَالَ لَا أَدْرِي لِلْمَيِّتِ وَارِثًا غَيْرَهُمَا أَوْ لَا لَمْ يَكُنْ لِمُدَّعِي الْوَصِيَّةِ شَيْءٌ بِهَذَا الْإِقْرَارِ، وَيَدْفَعُ الْقَاضِي إلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْ الْعَمَّةِ أَوْ الْخَالَةِ أَوْ بِنْتِ الْأَخِ إذَا انْفَرَدَ، أَمَّا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يُزَاحِمُ مُدَّعِي الْبُنُوَّةِ مُدَّعِيَ الْأُخُوَّةِ لَكِنْ مُدَّعِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا زَاحَمَهُ مُدَّعِي الزَّوْجِيَّةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ بِالْكُلِّ أَوْ الثُّلُثِ مُسْتَدِلًّا بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ فَمُدَّعِي الْأُخُوَّةِ أَوْ الْبُنُوَّةِ أَوْلَى بَعْدَمَا يُسْتَحْلَفُ الِابْنُ مَا هَذِهِ زَوْجَةُ الْمَيِّتِ أَوْ مُوصًى لَهُ، هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ قَامَ أَخَذَ بِهَا، وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ؟ تَقَدَّمَ، وَلَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ أَوْ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِالْكُلِّ أَوْ ثُلُثِهِ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ زَوْجَتُهُ فَالْمَالُ لِلِابْنِ وَالْمَوْلَى كَمَا لَوْ عَايَنَاهُ أَقَرَّ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ أَقَرَّ بِسَبَبٍ مُنْتَقَضٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا قُسِمَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَفِيلٌ وَلَا مِنْ وَارِثٍ وَهَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ.
لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ لِلْغُيَّبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ وَارِثًا غَائِبًا أَوْ غَرِيمًا غَائِبًا، لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً فَيُحْتَاطُ بِالْكَفَالَةِ.
كَمَا إذَا دَفَعَ الْآبِقَ وَاللُّقَطَةَ إلَى صَاحِبِهِ وَأَعْطَى امْرَأَةَ الْغَائِبِ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ قَطْعًا، أَوْ ظَاهِرًا فَلَا يُؤَخَّرُ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ إلَى زَمَانِ التَّكْفِيلِ كَمَنْ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ أَوْ أَثْبَتَ الدَّيْنَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى بِيعَ فِي دَيْنِهِ لَا يَكْفُلُ، وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ فَصَارَ كَمَا إذَا كُفِلَ لِأَحَدِ الْغُرَمَاءِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ ثَابِتٌ وَهُوَ مَعْلُومٌ.
وَأَمَّا الْآبِقُ وَاللُّقَطَةُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ.
وَقِيلَ إنْ دَفَعَ بِعَلَامَةِ اللُّقَطَةِ أَوْ إقْرَارِ الْعَبْدِ يَكْفُلُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ.
وَقولهُ ظُلْمٌ: أَيْ مَيْلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَهَذَا يَكْشِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ لَا كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا قُسِمَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ) أَوْ بَيْنَ الْوَرَثَةِ (لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَفِيلٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَ) قَالَ: (هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ فِيهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ) كَأَنَّهُ عَنَى بِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ بِالْكُوفَةِ (وَقَالَا: يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ) أَيْ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ حَتَّى يَكْفُلُوا (وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ) أَمَّا إذَا ثَبَتَا بِالْإِقْرَارِ فَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ لَا يُكْفَلُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَتَأَنَّى الْقَاضِي سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَارِثُ مِمَّنْ يَحْجُبُ أَوْ لَا يَحْجُبُ، وَلَوْ قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا.
ثُمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ نَفْيِ الدَّفْعِ إذَا لَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا آخَرَ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ وَارِثًا لَا يُحْجَبُ بِغَيْرِهِ، وَتَفْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ قَالَ: وَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ وَادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ بَلْ قَالُوا وَتَرَكَهَا لِوَرَثَتِهِ لَا تُقْبَلُ وَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ لِيَصِيرَ نَصِيبُ هَذَا الْوَاحِدِ مَعْلُومًا، وَالْقَضَاءُ بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ مُتَعَذِّرٌ.
وَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: الْأَوَّلُ هَذَا، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ.
وَالثَّانِي أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ بِلَا تَلَوُّمٍ، الثَّالِثُ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ مَالِكِ هَذِهِ الدَّارِ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَقولوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَتَلَوَّمُ زَمَانًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى، فَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ آخَرُ قَسَمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ دَفَعَ الدَّارَ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ كَفِيلًا عِنْدَهُمَا.
وَلَا يَأْخُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ إنَّمَا يَدْفَعُ إلَى الْوَارِثِ الَّذِي حَضَرَ جَمِيعَ الْمَالِ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ كَالْأَبِ وَالِابْنِ، فَإِنْ كَانَ يُحْجَبُ بِغَيْرِهِ كَالْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ حَجْبَ نُقْصَانٍ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ يَدْفَعُ إلَيْهِ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُف، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَوْفَرَهُمَا وَهُوَ النِّصْفُ لِلزَّوْجِ وَالرُّبْعُ لِلزَّوْجَةِ.
وَقول أَبِي حَنِيفَةَ مُضْطَرِبٌ.
هَذَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَمِنْ صُوَرِهِ مَا إذَا أَقَرَّ الْمُودَعُ لِرَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَالْقَاضِي يَتَأَنَّى عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِقول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَنْ يَنْتَظِرَ زَمَانًا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ابْنٌ آخَرُ لَظَهَرَ، وَقَدَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ بِعَامٍ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ وَارِثٌ آخَرُ دَفَعَ الْمَالَ وَأَخَذَ كَفِيلًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَظْهَرَ وَارِثٌ آخَرُ.
قِيلَ هَذَا قولهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُ، وَقِيلَ يَأْخُذُ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ دُونَ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ (لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ لِلْغُيَّبِ) أَيْ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لَهُمْ (وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ وَارِثًا غَائِبًا أَوْ غَرِيمًا غَائِبًا، لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً فَيُحْتَاطُ بِالْكَفَالَةِ، كَمَا إذَا دَفَعَ) الْقَاضِي (الْآبِقَ وَاللُّقَطَةَ إلَى) الَّذِي أَثْبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ (صَاحِبُهُ) أَخَذَ كَفِيلًا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ (وَ) كَذَا إذَا (أَعْطَى امْرَأَةَ الْغَائِبِ) يَعْنِي إذَا كَانَتْ تَسْتَنْفِقُ: أَيْ تَطْلُبُ (النَّفَقَةَ) وَزَوْجُهَا غَائِبٌ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَدِيعَةٌ وَهُوَ مُقِرٌّ بِالزَّوْجِيَّةِ الْوَدِيعَةِ فَالْقَاضِي يُعْطِيهَا (مِنْ مَالِهِ) وَيَأْخُذُ كَفِيلًا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ قَطْعًا) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ الْآخَرُ مَعْدُومًا (أَوْ ظَاهِرًا) فِيمَا إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَالْقَاضِي لَمْ يُكَلَّفْ بِإِظْهَارِهِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ حَقَّ الْحَاضِرِ بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ (فَلَا يُؤَخَّرُ) إلَى زَمَانِ التَّكْفِيلِ (لِحَقٍّ مَوْهُومٍ) أَرَأَيْت لَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا كَانَ مَنْعُ حَقِّهِ هَذَا ظُلْمًا وَصَارَ (كَمَنْ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ) لَا يُؤْخَذُ كَفِيلٌ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا أَثْبَتَ شِرَاءَهُ بِالْحُجَّةِ (وَ) لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ (الَّذِي أَثْبَتَ دَيْنَهُ عَلَى الْعَبْدِ) بِالْبَيِّنَةِ (حَتَّى بِيعَ) الْعَبْدُ (لِأَجْلِ دَيْنِهِ) وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ حُضُورُ مُشْتَرٍ آخَرَ قَبْلَهُ وَغَرِيمٍ آخَرَ لِلْعَبْدِ (وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَفَلَ) لِأَحَدِ الْغُرَمَاءِ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ ثَابِتٌ وَالزَّوْجُ مَعْلُومٌ، فَأَمَّا الْآبِقُ وَاللُّقَطَةُ فَفِي أَخْذِ (الْكَفِيلِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ. وَقِيلَ إنْ دَفَعَ اللُّقَطَةَ بِعَلَامَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ يَكْفُلُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ) مَعَ الْعَلَامَةِ وَإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْإِبَاقِ.
لَا يُقَالُ: يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ صِيَانَةً لِقَضَائِهِ عَنْ النَّقْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ، وَلَا يُقَالُ يَأْخُذُ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي تَسْلِيمِ مَالِهِ إلَى وَارِثِهِ وَقَدْ أَثْبَتَ وِرَاثَتَهُ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقَاضِي يَتَلَوَّمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ وَكَذَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَالتَّلَوُّمُ: إنَّمَا هُوَ لِتَوَهُّمِ وَارِثٍ أَوْ غَرِيمٍ آخَرَ، وَبَعْدَ التَّلَوُّمِ مَا انْقَطَعَتْ الشُّبْهَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ لِبَقَاءِ الشُّبْهَةِ وَيَدْفَعُ إلَى الْحَاضِرِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ رَاجِحَةٌ عَلَى الشُّبْهَةِ فَأَظْهَرْنَا رُجْحَانَهَا فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ قِيَامُ الشُّبْهَةِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ عَمَلًا بِالْجِهَتَيْنِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَمَلَ يَجِبُ بِالْحُجَّةِ بَعْدَ قِيَامِهَا لَا بِالشُّبْهَةِ وَلَيْسَ التَّكْفِيلُ كَالتَّلَوُّمِ لِأَنَّ التَّلَوُّمَ لِطَلَبِ عِلْمٍ زَائِدٍ لَهُ لِيَتِمَّ عِلْمُهُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَإِنَّ التَّلَوُّمَ يَقُومُ مَقَامَ قول الشُّهُودِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَهَادَةٍ لِأَنَّهَا عَلَى النَّفْيِ، بَلْ هُوَ خَبَرٌ يُؤَكِّدُ ظَنَّ انْتِفَاءِ غَيْرِهِ، أَمَّا الْكَفَالَةُ فَطَلَبُ أَمْرٍ زَائِدٍ مِنْ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِتَوَجُّهِ حَقٍّ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَجَّهُ بِالْمَوْهُومِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقولهُ ظُلْمٌ) أَيْ قول أَبِي حَنِيفَةَ (يَكْشِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ لَا كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ) أَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ كَقول الْمُعْتَزِلَةِ جَرَّهُمْ إلَى هَذَا الْقول بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ فَكَانَ صِيَانَةُ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ الْخَطَإِ وَتَقْرِيرُهُمْ عَلَى الصَّوَابِ وَاجِبًا.
وَسَبَبُ نِسْبَةِ هَذَا الْقول إلَى أَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِيُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ.
وَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ مُتَنَاقِضًا، إذْ قولهُ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ أَصَابَ الْحَقَّ، وَإِلَّا لَكَانَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا، فَلَزِمَ أَنَّ مَعْنَى قولهِ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ: أَيْ يُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الِاجْتِهَادَ عَلَى الْمُتَأَهِّلِ لَهُ فَإِذَا اجْتَهَدَ فَقَدْ أَصَابَ بِسَبَبِ قِيَامِهِ بِالْوَاجِبِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ تَلَاعَنَا ثَلَاثًا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ وَقَالَ أَخْطَأَ السُّنَّةَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فُلَانٍ الْغَائِبِ قُضِيَ لَهُ بِالنِّصْفِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي يَدِ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ وَلَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: إنْ كَانَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ جَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ وَجُعِلَ فِي يَدِ أَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْ تُرِكَ فِي يَدِهِ) لَهُمَا أَنَّ الْجَاحِدَ خَائِنٌ فَلَا يُتْرَكُ الْمَالُ فِي يَدِهِ، بِخِلَافِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ أَمِينٌ.
وَلَهُ أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ لِلْمَيِّتِ مَقْصُودًا وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ ثَابِتٌ فَلَا تُنْقَضُ يَدُهُ كَمَا إذَا كَانَ مُقِرًّا وَجُحُودُهُ قَدْ ارْتَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْجُحُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِصَيْرُورَةِ الْحَادِثَةِ مَعْلُومَةً لَهُ وَلِلْقَاضِي، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَنْقول فَقَدْ قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهَا مُحَصَّنَةٌ بِنَفْسِهَا وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ بَيْعَ الْمَنْقول عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ دُونَ الْعَقَارِ، وَكَذَا حُكْمُ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى الصَّغِيرِ.
وَقِيلَ الْمَنْقول عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَقول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ أَظْهَرُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِفْظِ، وَإِنَّمَا لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ خُصُومَةٍ وَالْقَاضِي إنَّمَا نُصِبَ لِقَطْعِهَا لَا لِإِنْشَائِهَا، وَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَيُسَلَّمُ النِّصْفُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمَيِّتُ فِي الْحَقِيقَةِ وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَوْفِي إلَّا نَصِيبَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ، الْكُلِّ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي يَدِهِ.
ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَصْمًا بِدُونِ الْيَدِ فَيَقْتَصِرُ الْقَضَاءُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فُلَانٍ الْغَائِبِ قُضِيَ لَهُ بِالنِّصْفِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي يَدِ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ) إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ (وَلَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ، وَهَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَا: إنْ كَانَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ) قَدْ (جَحَدَ) فَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ (أُخِذَ مِنْهُ) النِّصْفُ (فَوُضِعَ عَلَى يَدِ أَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَحَدَ تُرِكَ فِي يَدِهِ. لَهُمَا أَنَّ الْجَاحِدَ خَائِنٌ) ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ بِالْجَحْدِ (فَلَا يُتْرَكُ فِي يَدِهِ) لِقُرْبِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ إمَّا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ كَذْبَةٌ أَوْ لِلْخِيَانَةِ (بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ) أَنَّهَا مَالُ الْمَيِّتِ مُودَعٌ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ خِيَانَةٌ وَقَدْ رَضِيَهُ الْمَيِّتُ فَكَانَ أَوْلَى بِحِفْظِهَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَضَاءَ) إنَّمَا (يَقَعُ أَوَّلًا لِلْمَيِّتِ مَقْصُودًا) لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ أَنَّهُ مَالُهُ حِينَئِذٍ تُقْضَى دُيُونُهُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ (وَكَوْنُهُ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ ثَابِتٌ) مَعَ جَحْدِهِ (فَلَا تُنْقَضُ يَدُهُ كَالْمُقِرِّ وَجُحُودُهُ قَدْ ارْتَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي) بِهَا لِلْمَيِّتِ (وَالظَّاهِرُ عَدَمُ جُحُودِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِصَيْرُورَةِ الْحَادِثَةِ مَعْلُومَةً لَهُ وَلِلْقَاضِي) وَمَوْتُ الْقَاضِي وَعَزْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْغَائِبُ، وَكَذَا احْتِرَاقُ الْمَحْضَرِ وَالتَّلَفُ نَادِرٌ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ لِنُدْرَتِهِ (فَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَنْقول) وَأَنْكَرَ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ (فَقَدْ قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ) النِّصْفُ (بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْحِفْظِ وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِي الْحِفْظِ) مِنْ تَرْكِهِ فِي يَدِهِ إذْ رُبَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مُتَأَوِّلًا كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ خِيَانَةً (بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهَا مُحَصَّنَةٌ بِنَفْسِهَا وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنَّ الْمَنْقول مُحْتَاجٌ إلَى الْحِفْظِ دُونَ الْعَقَارِ.
وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِي حِفْظِهِ مِنْ تَرْكِهِ (يَمْلِكُ الْوَصِيُّ بَيْعَ الْمَنْقول عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ دُونَ الْعَقَارِ وَكَذَا حُكْمُ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى الصَّغِيرِ) يَمْلِكُ بَيْعَ الْمَنْقول مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي الْمَالِ (وَقِيلَ الْمَنْقول عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا) عِنْدَهُ يُتْرَكُ فِي يَدِ الَّذِي جَحَدَ وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ (وَإِنَّمَا لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ) عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ (لِأَنَّهُ إنْشَاءُ خُصُومَةٍ وَالْقَاضِي إنَّمَا نُصِبَ لِقَطْعِهَا) وَهَذَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَجِدُ كَفِيلًا أَوْ لَا يَسْمَحُ بِإِعْطَائِهِ وَالْأَخُ الْحَاضِرُ يُطَالِبُهُ بِهِ فَتَثُورُ الْخُصُومَةُ (ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَيُسَلِّمُ النِّصْفَ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ) الْكَائِنِ فِي غَيْبَتِهِ (لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا) فَقَدْ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ الْوَرَثَةِ وَهَذَا مِنْهُمْ.
وَقولهُ (لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمَيِّتُ فِي الْحَقِيقَةِ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَرِيبٍ (وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً عَنْهُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ) أَيْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ (لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ) لَا لِلْمَيِّتِ (فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَوْفِي إلَّا نَصِيبَ نَفْسِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ) فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْكُلِّ وَلَا يَأْخُذُ إلَّا نَصِيبَ نَفْسِهِ.
وَقولهُ (إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْكُلِّ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قولهِ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ وَعَلَيْهِ وَيَكُونُ قَضَاءٌ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ (إذَا كَانَتْ) التَّرِكَةُ كُلُّهَا (فِي يَدِهِ) أَيْ فِي يَدِ الْحَاضِرِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَعْضُ فِي يَدِهِ يَنْفُذُ بِقَدْرِهِ لِأَنَّهُ لَا خُصُومَةَ بِدُونِ الْيَدِ، ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ.
قَالَ فِي شَهَادَاتِ الْمَوَارِيثِ: وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا وَثَلَاثَةَ بَنِينَ وَابْنَانِ غَائِبَانِ وَالدَّارُ فِي يَدِ الْحَاضِرِ فَادَّعَى رَجُلٌ الدَّارَ عَلَى الْحَاضِرِ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ وَقَالَ مَاتَ وَالِدُنَا وَأَخَوَايَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ قَبَضَا نَصِيبَهُمَا وَأَوْدَعَانِي وَغَابَا وَقَالَ الْمُدَّعِي كَانَتْ دَارِي فِي يَدِ أَبِيكُمْ وَأَعْلَمُ أَنَّ الْغَائِبَيْنِ قَبَضَا ثُلُثَيْهَا شَائِعًا وَأَوْدَعَاهَا عِنْدَك وَأَنَا أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارِي تُقْبَلُ وَذُو الْيَدِ خَصْمٌ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِيمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبَانِ وَصَدَقَا فِي الْإِرْثِ وَجَحَدَا حَقَّ الْمُدَّعِي فَالْقَضَاءُ مَاضٍ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ وَقَالَا لَمْ نَرِثْهَا مِنْ أَبِينَا بَلْ ثُلُثَاهَا لَنَا لَا بِالْإِرْثِ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي أَعِدْ بَيِّنَتَك عَلَيْهِمَا فِي ثُلُثَيْ الدَّارِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ لِأَنَّ إقْرَارَ الْحَاضِرِ يَعْمَلُ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْغَائِبَيْنِ.
قَالَ الْعَتَّابِيُّ: قَالَ مَشَايِخُنَا: هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الدَّارُ مَقْسُومَةً، أَمَّا إذَا اقْتَسَمُوهَا وَأَوْدَعَ اثْنَانِ نَصِيبَهُمَا الْحَاضِرَ وَغَابَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي فِي نَصِيبِهِمَا عَلَى الْحَاضِرِ وَالْتَحَقَ هَذَا بِسَائِرِ أَمْوَالِهِمَا فَلَا يَكُونُ الْحَاضِرُ خَصْمًا فِيهَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَلَوْ كَانَ ثُلُثَا الدَّارِ فِي يَدِ رَجُلٍ مَقْسُومٍ أَوْ غَيْرِ مَقْسُومٍ أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ الْغَائِبَانِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لَهُمَا مِيرَاثٌ مِنْ أَبِيهِمَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي، وَكَذَلِكَ الِابْنُ الْحَاضِرُ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَكُونُ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمَيِّتِ فِيمَا فِي يَدِهِ لَا فِيمَا فِي يَدِ غَيْرِهِ.
قَالَ الْأُسْرُوشَنِيُّ فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي عَيْنٍ هُوَ فِي يَدِهِ لَا فِي عَيْنٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ، حَتَّى إنَّ مَنْ ادَّعَى عَيْنًا مِنْ التَّرِكَةِ وَأَحْضَرَ وَارِثًا لَيْسَ فِي يَدِهِ ذَلِكَ الْعَيْنُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَفِي دَعْوَى الدَّيْنِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِعُمُومِ اسْمِ الْمَالِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْصَرِفُ إيجَابُهُ إلَى مَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ فِيهِ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمَالِ.
أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَأُخْتُ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهَا خِلَافَةٌ كَهِيَ فَلَا يَخْتَصُّ مَالٌ دُونَ مَالٍ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ الْتِزَامُ الصَّدَقَةِ مِنْ فَاضِلِ مَالِهِ وَهُوَ مَالُ الزَّكَاةِ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ تَقَعُ فِي حَالِ الِاسْتِغْنَاءِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ وَتَدْخُلُ فِيهِ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الصَّدَقَةِ، إذْ جِهَةُ الصَّدَقَةِ فِي الْعُشْرِيَّةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَدْخُلُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُؤْنَةِ، إذْ جِهَةُ الْمُؤْنَةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ، وَلَا تَدْخُلُ أَرْضُ الْخَرَاجِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَمَحَّضُ مُؤْنَةً.
وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَقَدْ قِيلَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَالٍ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْمَالِ.
وَالْمُقَيَّدُ إيجَابُ الشَّرْعِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِلَفْظِ الْمَالِ فَلَا مُخَصِّصَ فِي لَفْظِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ بِاللَّفْظَيْنِ الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ، (ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابِ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَهُ، ثُمَّ إذَا أَصَابَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ) لِأَنَّ حَاجَتَهُ هَذِهِ مُقَدَّمَةٌ وَلَمْ يُقَدِّرْ مُحَمَّدٌ بِشَيْءٍ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ.
وَقِيلَ الْمُحْتَرِفُ يُمْسِكُ قُوتَهُ لِيَوْمٍ وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ لِشَهْرٍ وَصَاحِبُ الضِّيَاعِ لِسَنَةٍ عَلَى حَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي مُدَّةِ وُصُولِهِمْ إلَى الْمَالِ، وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ التِّجَارَةِ يُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ) فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ النَّقْدَيْنِ وَالسَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَيُمْسِكُ قُوتَهُ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ، وَإِذَا وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِكُلِّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ مَا عِنْدَهُ نِصَابًا أَوْ لَا، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِنْسُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ دُونَ قَدْرِهِ، وَلِذَا قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَالِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ قَضَى بِهِ دَيْنًا لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يَكْتَسِبُهُ بَعْدَ إلَى أَنْ يُوَفَّى (وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ مَالٍ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ) فِيهِمَا (وَبِهِ قَالَ زُفَرُ) وَالْبَتِّيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لُبَابَةَ حِينَ قَالَ: إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً: «يُجْزِئُك الثُّلُثُ» (لِعُمُومِ اسْمِ الْمَالِ كَالْوَصِيَّةِ) وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ فِيهِ الصَّدَقَةَ) وَمَا أَوْجَبَ بِهِ التَّصَدُّقَ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَعَلَّقَ الْإِيجَابَ بِبَعْضِهِ.
قَالَ تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَلَمْ يَعُمَّ كُلَّ مَالٍ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ إنَّمَا يَصْدُقُ بِالْأَخْذِ مِنْ كُلِّ مَالٍ، وَذَكَرْنَا فِي الْأُصُولِ أَنَّ بِالْأَخْذِ مِنْ جِنْسِ الْأَمْوَالِ يَصْدُقُ بِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا ذَاكَ قول الشَّافِعِيِّ، وَالْأَحْسَنُ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ إذْ مُنِعَ مِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} فَوَجَبَ تَقْيِيدُهَا بِبَعْضِهَا، ثُمَّ عَيَّنَا ذَلِكَ الْبَعْضَ بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا بِإِيجَابِ التَّصَدُّقِ مِنْهَا.
وَأَمَّا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ إخْرَاجَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَجْنَاسِ الْمَالِ طَاعَةٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ تَقَيَّدَ بِجَمِيعِ مَا تَلَفَّظَ بِهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِلُزُومِ الْمَعْصِيَةِ.
وَحَدِيثُ أَبِي لُبَابَةَ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ نَذَرَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى أَنَّهُ نَوَى ذَلِكَ وَقَصَدَهُ.
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَجَرَيْنَا فِيهَا عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا فَقُلْنَا: لَوْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَهُ وَرَثَةٌ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِهِ ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الثُّلُثِ الْمَفْسُوخِ لَهُ فِيهِ مَعَ وُجُودِ الْوَرَثَةِ.
وَأَمَّا نَفَاذُهُ فِي الْكُلِّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ فَلِأَنَّهَا إنَّمَا تُوجِبُ ذَلِكَ فِي حَالِ اسْتِغْنَائِهِ بِالْمَوْتِ فَانْتَفَى الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّهْيَ مَا كَانَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ إلَّا لِقِيَامِ حَاجَتِهِ النَّاجِزَةِ فِي الْحَيَاةِ وَعَدَمِ الْبُدَاءَةِ بِنَفْسِهِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» فَيُؤَدِّي إلَى ضِيقِ نَفْسِهِ وَحَرَجِهَا وَهُوَ قَدْ يَكُونُ سَبَبَ الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَقول الْمُصَنِّفِ (وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الصَّدَقَةَ إلَخْ) يَصْلُحُ تَقْرِيرًا لِإِبْدَاءِ الْمُخَصِّصِ يَعْنِي أَنَّ الْعُمُومَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَكِنَّ هُنَا مَعْنًى يُخَصِّصُهُ وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إرْسَالِ لَفْظٍ عَامٍّ بِالْخُرُوجِ عَنْ كُلِّ مَالِهِ مَعَ قِيَامِ حَاجَتِهِ الْمُسْتَمِرَّةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ عَدَمُ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، فَكَانَ ظَاهِرًا فِي إرَادَةِ الْخُصُوصِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُزُومِ الْمَعْصِيَةِ بِتَقْدِيرِ اعْتِبَارِ عُمُومٍ هُوَ أَيْضًا مِنْ إبْدَاءِ الْمُخَصِّصِ، وَهَذَا مِنْ أَفْرَادِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ بِدَلَالَةٍ.
وَهَلْ تَدْخُلُ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ فَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَعَمْ لِأَنَّ جِهَةَ الصَّدَقَةِ غَالِبَةٌ فِي الْعُشْرِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا، لِأَنَّ جِهَةَ الْمُؤْنَةِ غَالِبَةٌ عِنْدَهُ، وَلَا تَدْخُلُ الْخَرَاجِيَّةُ اتِّفَاقًا لِتَمَحُّضِ الْخَرَاجِ مُؤْنَةً وَلِذَا وَجَبَ فِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْوَقْفِ (وَلَوْ) كَانَ (قَالَ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةً قِيلَ يَجِبُ الْكُلُّ) لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ فِي الشَّرْعِ الْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْمَالِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ بِاللَّفْظَيْنِ الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ) وَهَذَا يُؤْذِنُك بِقَصْدِهِمْ إلَى التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ، وَكَانَ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ فِي اللَّفْظَيْنِ أَنْ يَثْبُتَ مِثْلُهُ فِي قولهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ جَمِيعَ مَالِي أَوْ جَمِيعَ مِلْكِي، إلَّا أَنَّ الطَّحَاوِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ الْكُلُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ بِهِ فَقَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ جَمِيعَ مَالِي حَيْثُ يَجِبُ الْكُلُّ بِلَا إشْكَالٍ لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لِمَنْعِ النَّفْسِ عَنْ الْمَذْكُورِ بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُهُ عَلَى تَقْدِيرِهِ فَانْفَتَحَ بَابُ إرَادَةِ الْعُمُومِ، إلَّا أَنَّ هَذَا عَلَى جَعْلِ الْمُخَصِّصِ الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ، وَأَمَّا عَلَى جَعْلِهِ لُزُومَ الْمَعْصِيَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَخُصَّ أَيْضًا فَكَانَ تَعْوِيلُهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَقولهُ (عَلَى مَا مَرَّ) يُرِيدُ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ هَذَا.
ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابِ، يَعْنِي مَالَ الزَّكَاةِ عَلَى بُعْدِ ذَلِكَ (يُمْسِكُ مِنْهُ قُوتَهُ) وَيَتَصَدَّقُ بِمَا سِوَاهُ (وَإِذَا اسْتَفَادَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ وَلَمْ يُقَدِّرْ مُحَمَّدٌ) مِقْدَارًا فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ (لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ) مِنْ قِلَّةِ الْعِيَالِ أَوْ كَثْرَتِهِمْ وَالرَّخَاءِ وَالْغَلَاءِ فَيَخْتَلِفُ الِاعْتِبَارُ (وَقِيلَ الْمُحْتَرِفُ يُمْسِكُ لِيَوْمٍ) لِأَنَّهُ يَكْتَسِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا (وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ) وَهُوَ مَنْ لَهُ حَوَانِيتُ أَوْ دُورٌ يَجْبِيهَا يُمْسِكُ (شَهْرًا) لِأَنَّ يَدَهُ تَصِلُ إلَى نَفَقَتِهِ بَعْدَ شَهْرٍ (وَصَاحِبُ الضِّيَاعِ لِسَنَةٍ) لِأَنَّ غَلَّتَهَا كَذَلِكَ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا فَبَعْضُهُمْ كَذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يُؤَجِّرُهَا بِدَرَاهِمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَاطٍ كُلُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قِسْطٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ إلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (وَعَلَى هَذَا فَصَاحِبُ التِّجَارَةِ يُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ).

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْوَصِيَّةَ حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ) فَهُوَ وَصِيٌّ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ حَتَّى يَعْلَمَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ إنَابَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتُعْتَبَرُ بِالْإِنَابَةِ قَبْلَهُ وَهِيَ الْوَكَالَةُ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لِإِضَافَتِهَا إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ الْإِنَابَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي تَصَرُّفِ الْوَارِثِ.
أَمَّا الْوَكَالَةُ فَإِنَابَةٌ لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ لَا يَفُوتُ النَّظَرُ لِقُدْرَةِ الْمُوَكَّلِ، وَفِي الْأَوَّلِ يَفُوتُ لِعَجْزِ الْمُوصِي (وَمَنْ أَعْلَمَهُ مِنْ النَّاسِ بِالْوَكَالَةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ) لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ لَا إلْزَامُ أَمْرٍ.
قُلْ (وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَبِالْوَاحِدِ فِيهَا كِفَايَةٌ.
وَلَهُ أَنَّهُ خَبَرٌ مُلْزِمٌ فَيَكُونُ شَهَادَةً مِنْ وَجْهٍ فَيُشْتَرَطُ أَحَدُ شَطْرَيْهَا وَهُوَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْمُوَكَّلِ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِرْسَالِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أُخْبِرَ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ وَالشَّفِيعُ وَالْبِكْرُ وَالْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَهُوَ وَصِيٌّ) بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا بَاعَ ثُمَّ عَلِمَ بِالْوَكِيلِ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا حَتَّى يَعْلَمَ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ إنَابَةٌ) أَيْ اسْتِنَابَةٌ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ اللُّغَةِ فِي الْإِنَابَةِ إنَّمَا هُوَ مَعْنَى الرُّجُوعِ وَالْإِقْلَاعِ مِنْ أَنَابَ إلَى اللَّهِ.
وَاسْتَدَلَّ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الِاسْتِنَابَةِ بِاسْتِعْمَالِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهَا كَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ نَفْسُهُ يَفْعَلُ كَذَلِكَ فَيُنَزِّلُ عِلْمَ الْمُتَكَلِّمِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ فَرُبَّمَا يَسْتَشْهِدُ بِبَيْتٍ لِأَبِي تَمَّامٍ وَأَبِي الطَّيِّبِ (وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) بَيْنَ الْوِصَايَةِ وَالتَّوْكِيلِ (أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافٌ) فِي التَّصَرُّفِ عَنْ الْمَيِّتِ كَالْوِرَاثَةِ فَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوَكَالَةِ (لِإِضَافَتِهَا) إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَتَصَرَّفُ كَتَصَرُّفِ الْوَارِثِ، وَلِذَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ ظَهَرَ مَوْتُ الْمُوَرِّثِ ظَهَرَ نَفَاذُهُ حِينَ صَدَرَ وَالْوِصَايَةُ اسْتِخْلَافُ مُضَافٍ (إلَى) مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْضًا وَهُوَ (زَمَانُ بُطْلَانِ الْإِنَابَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ) كَالْوِرَاثَةِ (لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ) وَلِهَذَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ (وَهَذَا لِأَنَّهُ) إذَا وَقَفْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ (لَا يَفُوتُ النَّظَرُ) لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمُوَكَّلِ وَقُدْرَتِهِ (وَفِي الْأَوَّلِ يَفُوتُ لِعَجْزِ الْمُوصِي) بِالْمَوْتِ، وَهَذَا إذَا ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ قَصْدًا، أَمَّا إذَا ثَبَتَتْ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقول لِعَبْدِهِ اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ يَبِيعُك أَوْ لِامْرَأَتِهِ اذْهَبِي إلَى فُلَانٍ يُطَلِّقُك أَوْ اذْهَبْ بِعَبْدِي إلَى فُلَانٍ فَيَبِيعَهُ مِنْك فَذَهَبَ كَمَا أَخْبَرَهُ فَفَعَلَ.
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَكَانَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي إحْدَاهُمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَفِي أُخْرَى لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ.
وَذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ مَا يُوَافِقُ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِلنَّاسِ بَايِعُوا عَبْدِي فَإِنِّي أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ جَازَ مَعَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لِلْعَبْدِ بِالْإِذْنِ، وَإِذَا تَوَقَّفَتْ الْوَكَالَةُ عَلَى الْعِلْمِ فَلْنَذْكُرْ بِمَاذَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الْمُثْبِتُ لِلْوَكَالَةِ فَقَالَ: (كُلُّ مَنْ أَعْلَمَهُ بِالْوَكَالَةِ جَازَ بِهِ تَصَرُّفُهُ) بِشَرْطِ كَوْنِهِ مُمَيِّزًا رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً فَاسِقًا كَانَ أَوْ عَدْلًا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لَا تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَصْلًا لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ عَقْدًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَ (لِأَنَّهُ) تَسْلِيطٌ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ قُلْنَا (إنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ) هُوَ حَقُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ (لَا إلْزَامُ أَمْرٍ) فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ وَكَانَ كَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهَا عَلَى يَدِهِ، وَهُوَ مَحَلُّ الْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ، فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُهَا مِنْ الْعَبْدِ وَالتَّقِيِّ وَيَشْتَرِي مِنْ الْكَافِرِ (أَمَّا الْعَزْلُ عَنْ الْوَكَالَةِ فَعِنْدَهُمَا هُوَ وَالْإِخْبَارُ بِهَا سَوَاءٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدُ عَدْلٍ أَوْ شَاهِدَانِ) أَيْ مُخْبِرَانِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عَدَلَا أَوْ لَمْ يَعْدِلَا (وَجْهُ قولهِمَا إنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَبِالْوَاحِدِ فِيهَا كِفَايَةٌ) وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَعْنَى إطْلَاقِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يُعْلَمَ حَالُهُمَا إلَّا أَنْ يَعْلَمَهُمَا بِالْفِسْقِ.
وَقِيلَ بَلْ هُوَ عَلَى إطْلَاقِهِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعَدَدِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْعَدَالَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِوَاحِدٍ عَدْلٍ لَا يَنْفُذُ وَبِفَاسِقَيْنِ يَنْفُذُ فَبِطَرِيقٍ أَوْلَى يَثْبُتُ بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ (وَهَذَا لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُلْزِمٌ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ الْوَكِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَمَا قِيلَ مُلْزِمٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ اصْطِلَاحِ أَنْ يُرَادَ بِالْمُلْزِمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا كَانَ إلْزَامًا عَلَى خَصْمٍ مُنْكِرٍ بِشَرْطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ.
وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِلْزَامُ كَذَلِكَ كَانَ إلْزَامًا فِيهِ قُصُورٌ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لَوْ تَصَرَّفَ بِنَاءً عَلَى الْإِلْزَامِ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ يَكْفِي لِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ كَوْنُهُ مُلْزِمًا مِنْ وَجْهٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ الْإِعْلَامِ بِالْوَكَالَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلْزَامٌ أَصْلًا لَمْ يَلْزَمْ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُخْبِرَ بِالْعَزْلِ لَوْ كَانَ فَاسِقًا وَصَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ.
قولهُ: (وَعَلَى هَذَا إذَا أُخْبِرَ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ إلَخْ) هَذِهِ سِتُّ مَسَائِلَ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مِنْهَا ثَلَاثَةً فِي الْأَصْلِ وَاثْنَتَيْنِ فِي النَّوَادِرِ وَالسَّادِسَةُ قَاسَهَا مَشَايِخُنَا عَلَى هَذِهِ.
أَمَّا الثَّلَاثُ فَإِحْدَاهَا عَزْلُ الْوَكِيلِ.
وَالثَّانِيَةُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالْحَجْرِ إنْ كَانَ رَسُولًا يَنْحَجِرُ فَاسِقًا كَانَ أَوْ عَدْلًا، وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا يُشْتَرَطُ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ فَيَنْحَجِرُ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ أَوْ كَذَّبَهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا إنْ صَدَّقَهُ انْحَجَرَ وَإِلَّا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ.
وَالثَّالِثَةُ الْعَبْدُ إذَا جَنَى جِنَايَةً وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمَوْلَى حَتَّى أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فَاسِقًا، إنْ صَدَّقَهُ ثُمَّ بَاعَ أَوْ أُعْتِقَ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ.
وَإِنْ كَذَّبَهُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لَهَا.
وَأَمَّا اللَّتَانِ فِي النَّوَادِرِ فَإِحْدَاهُمَا الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَخْبَرَهُ إنْسَانٌ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا، أَوْ أَخْبَرَهُ اثْنَانِ لَزِمَتْهُ حَتَّى لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَإِنْ صَدَّقَهُ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَعَلَى الْخِلَافِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ هَاهُنَا اتِّفَاقًا لِأَنَّ الْمُخْبِرَ لَهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِيهِ نَظَرٌ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِتَحْرِيرِ الْأُصُولِ.
وَالثَّانِيَةُ الشَّفِيعُ إذَا أُخْبِرَ بِالشِّرَاءِ فَسَكَتَ فَعَلَى مَا قُلْنَا إنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ فَصَدَّقَهُ ثَبَتَ الشِّرَاءُ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَهِيَ عَلَى الْخِلَافِ، فَإِذَا سَكَتَ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا تَبْطُلُ.
وَالسَّادِسَةُ الْبِكْرُ إذَا زُوِّجَتْ بِلَا اسْتِئْذَانٍ فَأُخْبِرَتْ فَسَكَتَتْ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ وَأَخَذَ الْمَالَ فَضَاعَ وَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي قَائِمٌ مَقَامَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي مَقَامَ الْإِمَامِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْحَقُهُ ضَمَانٌ كَيْ لَا يَتَقَاعَدُ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ فَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَاقِعٌ لَهُمْ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرُّجُوعِ عَلَى الْعَاقِدِ، كَمَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُبَاعُ بِطَلَبِهِمْ (وَإِنْ أَمَرَ الْقَاضِي الْوَصِيَّ بِبَيْعِهِ لِلْغُرَمَاءِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَضَاعَ الْمَالُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ) لِأَنَّهُ عَاقِدٌ نِيَابَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ بِإِقَامَةِ الْقَاضِي عَنْهُ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ بِنَفْسِهِ.
قَالَ: (وَرَجَعَ الْوَصِيُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ فِيهِ بِدَيْنِهِ.
قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِالْمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ لَحِقَهُ فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ، وَالْوَارِثُ إذَا بِيعَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ كَانَ الْعَاقِدُ عَامِلًا لَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ) أَيْ لِأَجَلِهِمْ لِيُوفِيَ دُيُونَهُمْ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْمَيِّتِ (وَأَخَذَ الْمَالَ) أَيْ الثَّمَنَ (فَضَاعَ) عِنْدَهُ (ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ) أَوْ مَاتَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي (لَمْ يَضْمَنْ) الْقَاضِي وَلَا أَمِينُهُ لِلْمُشْتَرِي شَيْئًا (لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي وَالْقَاضِي كَالْإِمَامِ وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَلْحَقُهُ ضَمَانٌ كَيْ لَا يَتَقَاعَدَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ، وَ) إذَا لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ مِنْ هَؤُلَاءِ (يَرْجِعُ) بِالثَّمَنِ (عَلَى الْغُرَمَاءِ) أَوْ الْغَرِيمِ (لِأَنَّ الْبَيْعَ) وَالتَّصَرُّفَ (وَاقِعٌ لِأَجَلِهِمْ) فَتَرْجِعُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِمْ وَصَارَ (كَمَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ) عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَكَّلَهُ رَجُلٌ بِبَيْعِ مَالِهِ جَازَ الْعَقْدُ بِمُبَاشَرَتِهِمَا، وَلَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِهِمَا بَلْ بِمُوَكَّلِهِمَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعُهْدَةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا لِقُصُورِ الْأَهْلِيَّةِ فِي الصَّبِيِّ وَحَقُّ السَّيِّدِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ تَعَلُّقُ الْحُقُوقِ بِالْعَاقِدِ تَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الْعَقْدِ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ فِي مَسْأَلَتِنَا مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ الْغَرِيمُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَأْمُرُ الْوَصِيَّ أَوْ أَمِينَهُ بِالْبَيْعِ حَتَّى يَطْلُبَ الْغَرِيمُ فَلِذَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ (وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ الْوَصِيَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ نِيَابَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ بِإِقَامَةِ الْقَاضِي إيَّاهُ عَنْهُ ثُمَّ الْوَصِيُّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَرِيمِ) وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ الْعَبْدَ لِنَفَقَةِ الْوَارِثِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْوَصِيَّ يَرْجِعُ عَلَى الْوَارِثِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْبَيْعَ لِأَجَلِهِ وَهُوَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، فَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا نَصَبَ الْقَاضِي عَنْهُ مَنْ يَقْضِي دَيْنَهُ (فَلَوْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ فِيهِ بِدَيْنِهِ): بِلَا شَكٍّ وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (قَالُوا وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِالْمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا أَيْضًا) يُرِيدُ بِالْمِائَةِ مَا ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي فَرْضُهَا مِائَةٌ (لِأَنَّهُ لَحِقَهُ) ذَلِكَ (فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ: أَعْنِي جَوَازَ أَنْ يُقَالَ: وَأَمَّا الْوَاقِعُ مِنْ الْقول بِالرُّجُوعِ بِمَا ضَمِنَ فَفِيهِ خِلَافٌ.
قِيلَ نَعَمْ، وَقَالَ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: لَا يَأْخُذُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ لِأَنَّ الْغَرِيمَ إنَّمَا ضَمِنَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَفِي الْكَافِي: الْأَصَحُّ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ قَضَى ذَلِكَ وَهُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّصْحِيحِ كَمَا سَمِعْت.

.فَصْلٌ آخَرُ: إِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِـكذا:

(وَإِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ فَارْجُمْهُ أَوْ بِالْقَطْعِ فَاقْطَعْهُ أَوْ بِالضَّرْبِ فَاضْرِبْهُ وَسِعَك أَنْ تَفْعَلَ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا وَقَالَ: لَا تَأْخُذْ بِقولهِ حَتَّى تُعَايِنَ الْحُجَّةَ، لِأَنَّ قولهُ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَالْخَطَأَ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُهُ.
وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِفَسَادِ حَالِ أَكْثَرِ الْقُضَاةِ فِي زَمَانِنَا إلَّا فِي كِتَابِ الْقَاضِي لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُقْبَلُ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ، وَلِأَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبَةٌ، وَفِي تَصْدِيقِهِ طَاعَةٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ كَانَ عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قولهُ لِانْعِدَامِ تُهْمَةِ الْخَطَإِ وَالْخِيَانَةِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا يُسْتَفْسَرُ، فَإِنْ أَحْسَنَ التَّفْسِيرَ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَاسِقًا أَوْ عَالِمًا فَاسِقًا لَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ سَبَبَ الْحُكْمِ لِتُهْمَةِ الْخَطَإِ وَالْخِيَانَةِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ آخَرُ) إِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِكذا:
لَمَّا كَانَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ قول الْقَاضِي بِانْفِرَادِهِ هَلْ يُقْبَلُ مُوَلًّى وَمَعْزُولًا أَخَّرَهُ.
قولهُ: (وَإِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ فَارْجُمْهُ أَوْ بِالْقَطْعِ فَاقْطَعْهُ أَوْ بِالضَّرْبِ فَاضْرِبْهُ وَسِعَك أَنْ تَفْعَلَ) بِمُجَرَّدِ إخْبَارِهِ هَذَا (وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا وَقَالَ لَا تَأْخُذْ بِقولهِ حَتَّى تُعَايِنَ الْحُجَّةَ) الَّتِي عَنْهَا حَكَمَ فِيهِ بِذَلِكَ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِحَضْرَتِهِ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ عَلَى هَذَا فَقَالُوا: أَوْ يَشْهَدُ مَعَ الْقَاضِي شَاهِدٌ عَدْلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَشْهَدُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الْقَاضِي وَالْعَدْلُ عَلَى شَهَادَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِسَبَبِ الْحَدِّ لَا عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي، وَإِلَّا كَانَ الْقَاضِي شَاهِدًا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُنَا مَنْ يَشْهَدُ عِنْدَهُ إلَّا الْمَأْمُورُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ: أَعْنِي أَنْ يَشْهَدَ الْقَاضِي عِنْدَ الْجَلَّادِ بِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَيُؤَدِّي الْآخَرُ عِنْدَهُ، وَلِذَا اقْتَصَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى مُعَايَنَةِ حُضُورِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمَأْمُورِ وَهَذَا (لِأَنَّ الْغَلَطَ وَالْخَطَأَ فِي الْحُكْمِ مُحْتَمَلٌ) لِأَنَّ الْقَطْعَ بِنَفْيِهِمَا لَيْسَ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَعَلَى هَذَا لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي) لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِيهِ عَلَى خَبَرِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِمُفْرَدِهِ (وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِفَسَادِ حَالِ أَكْثَرِ الْقُضَاةِ إلَّا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ الْحُقُوقِ، وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ الِاعْتِمَادِ مُعَلَّلًا بِالْفَسَادِ وَالْغَلَطِ اقْتَضَى الْحَالُ التَّفْصِيلَ فِي التَّوَقُّفِ لَا إطْلَاقَهُ (فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قولهُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ) فِي الدِّينِ بِالْعَدَالَةِ وَالْخَطَإِ فِي الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ (وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا اُسْتُفْسِرَ، فَإِنْ أَحْسَنَ) فِي بَيَانِ سَبَبِ حُكْمِهِ وَشُرُوطِهِ (وَجَبَ تَصْدِيقُهُ) لِلْعَدَالَةِ وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ فَاسِقًا عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا، فَإِنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ مِنْ الرُّكُونِ لِإِخْبَارِهِ بِالِاسْتِفْسَارِ، وَحُكْمُهُ بِقَصْدِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يُؤْخَذُ بِقولهِ وَلَا بِتَفْسِيرِهِ (وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ) فِي الْحَالِ (فَيُقْبَلُ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ) لِأَنَّ التُّهْمَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي إخْبَارٍ بِأَمْرٍ لَا يُمْكِنُ إنْشَاؤُهُ فِي الْحَالِ فَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ، أَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْدَرُ عَلَى إنْشَائِهِ فِي الْحَالِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَنْشَأَهُ فِي الْحَالِ بِمُعَايَنَةِ الْحَاضِرِينَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لَيْسَ إلَّا الْحُكْمَ وَهُوَ لَا يُفِيدُ، فَإِنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَانِعَ قَائِمٌ إذَا عَايَنَ الْحُكْمَ وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ الشَّهَادَةَ وَالشُّرُوطَ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَقُلْ الْحُكْمَ فَلَا يُفِيدُ هَذَا الْوَجْهُ شَيْئًا.
وَلَمَّا زَادَ مَنْ زَادَ عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ قولهُمْ أَوْ يَشْهَدُ مَعَ الْقَاضِي عَدْلٌ عَلَى ذَلِكَ احْتَاجُوا أَنْ يَزِيدُوا وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يُنْصَبَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ قَاضٍ وَاحِدٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْقَاضِي بِانْفِرَادِهِ حُجَّةً فِي الْإِلْزَامِ لَقُلِّدَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ قَاضِيَانِ، وَأَنْتَ سَمِعْت مَا قَدَّمْنَاهُ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَعَلِمْت أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِسَبَبِ الْقَضَاءِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْمَأْمُورِ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ وُقُوعَ السَّبَبِ أَوْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي الْآمِرِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى الْوَجْهِ الْفُلَانِيِّ وَيَشْهَدُوا تَوَفُّرَ الشُّرُوطِ، وَهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَكْثِيرِ الْقُضَاةِ بَلْ عَلَى وُجُودِ الشُّهُودِ قُضَاةً كَانُوا أَوْ لَا، فَلَا يَلْزَمُ لِذَلِكَ تَكْثِيرُهُمْ، فَالْمُلَازَمَةُ بَيْنَ عَدَمِ قَبُولِ خَبَرِهِ بِانْفِرَادِهِ وَتَكْثِيرِ الْقُضَاةِ مَمْنُوعَةٌ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ لِرَجُلٍ أَخَذْتُ مِنْك أَلْفًا وَدَفَعْتهَا إلَى فُلَانٍ قَضَيْتُ بِمَا عَلَيْك فَقَالَ الرَّجُلُ أَخَذْتَهَا ظُلْمًا فَالْقول قول الْقَاضِي، وَكَذَا لَوْ قَالَ قَضَيْت بِقَطْعِ يَدِك فِي حَقٍّ، هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي قُطِعَتْ يَدُهُ وَاَلَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الْمَالُ مُقِرَّيْنِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَاضٍ) وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا تَوَافَقَا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي قَضَائِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ.
إذْ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْجَوْرِ ظَاهِرًا (وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاضِي.
(وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْآخِذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ أَيْضًا) لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ الْقَضَاءِ وَدَفْعُ الْقَاضِي صَحِيحٌ كَمَا إذَا كَانَ مُعَايِنًا (وَلَوْ زَعَمَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ أَوْ الْمَأْخُوذُ مَالُهُ أَنَّهُ فَعَلَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ فَالْقول لِلْقَاضِي أَيْضًا) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ فِعْلَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ طَلَّقْت أَوْ أَعْتَقْت وَأَنَا مَجْنُونٌ وَالْجُنُونُ مِنْهُ كَانَ مَعْهُودًا (وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ أَوْ الْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي بِضَمَانٍ) لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَقول الْقَاضِي مَقْبُولٌ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ سَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ (وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْآخِذِ قَائِمًا وَقَدْ أَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَالُ صُدِّقَ الْقَاضِي فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي قَضَائِهِ أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَضَائِهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى تَمَلُّكِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَقول الْمَعْزُولِ فِيهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ لِرَجُلٍ إلَخْ) صُورَتُهَا عُزِلَ الْقَاضِي فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَلْفًا بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ قَضَيْت بِهَا عَلَيْك لِفُلَانٍ وَدَفَعْتهَا إلَيْهِ وَقَضَيْت بِقَطْعِك فِي حَقٍّ فَالْقول قول الْقَاضِي، وَلَمْ يُحْكَ فِي هَذَا جَرَيَانُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ هَذَا فِي أَمْرٍ فَاتَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقول لِلْقَاضِي، وَإِلَّا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَزْلِ خُصُومَاتٌ فِي أَنْفُسٍ وَأَمْوَالٍ لَا تُحْصَرُ حِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْقول لَهُ فِي هَذَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ بَعْدُ لَمْ يَقَعْ فَكَانَ إعْمَالُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ مُفِيدًا، نَعَمْ كَوْنُ الْقول لَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي مُقِرًّا بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَاضٍ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَوَافَقَا عَلَى ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى جَرَتْ وَهُوَ قَاضٍ، وَالْقول قولهُ فِي ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا (وَ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ (لَا يَقْضِي بِالْجَوْرِ ثُمَّ لَا يَمِينَ) عَلَى الْمَعْزُولِ (لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ) وَهُوَ (فِي) حَالِ (قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ، وَ) لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ فِي حَالِ قَضَائِهِ بِذَلِكَ (لَا يَمِينَ عَلَيْهِ) فَكَذَا بَعْدَهُ (وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ) الْمَأْمُورُ (أَوْ الْآخِذُ) لِلْمَالِ بِأَمْرِ الْقَاضِي (بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي) وَهُوَ أَنَّ الْقَطْعَ مِنْهُ وَالْأَخْذَ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْأَخْذِ وَأَمْرِهِ بِالدَّفْعِ (لَا يَضْمَنُ أَيْضًا) كَالْقَاضِي لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ دَفَعَ الْقَاضِي الْمَالَ إلَى الْآخِذِ مُعَايِنًا لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ وَيَصِيرُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِ الْمَقْطُوعِ أَنَّهُ قَطَعَهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ كَالْمُعَايِنِ لِلْحَاكِمِ الَّذِي رَفَعَ إلَيْهِ الْمَقْطُوعُ وَاقِعَتَهُ (فَـ) أَمَّا (لَوْ زَعَمَ الْمَقْطُوعُ وَالْمَأْخُوذُ مَالَهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ التَّقْلِيدِ) أَوْ بَعْدَهُ وَالْقَاضِي يَقول بَلْ فَعَلْته فِي حَالِ قَضَائِي فَفِيهِ خِلَافٌ (وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقول أَيْضًا لِلْقَاضِي، لِأَنَّهُ) أَيْ الْقَاضِي (أَضَافَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا) اتَّفَقَا عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ كَانَ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ عَقْلِكَ وَ (قَالَ) بَلْ (وَأَنَا مَجْنُونٌ وَكَانَ جُنُونُهُ مَعْهُودًا) فَالْقول لَهُ وَكَمَا لَوْ قَالَ أَقْرَرْت لَكَ وَأَنَا ذَاهِبُ الْعَقْلِ مِنْ بِرْسَامٍ وَهُوَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ بِهِ، وَاحْتُرِزَ بِقولهِ هُوَ الصَّحِيحُ عَمَّا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِهِ لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّ الْقول لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا يَخُصُّ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَعْدَ الْعَزْلِ خَاصَّةً، وَكَذَا أَفْرَضَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ: فَأَمَّا إذَا زَعَمَ: أَيْ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَزْلِ فَإِنَّ الْقول قولهُ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَادِثٌ إلَخْ.
قَالَ: وَمَنْ ادَّعَى فِيهِ تَارِيخًا سَابِقًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَالتَّصْحِيحُ يَخُصُّ مَا إذَا كَانَتْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ بَعْدَ الْعَزْلِ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي تَعْلِيلِهِ مَا يَعُمُّ كَوْنَ الْقول لِلْقَاضِي فَإِنَّهُ قَالَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُنَازَعَةَ مَتَى وَقَعَتْ فِي الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ يُحَكَّمُ الْحَالُ كَمَسْأَلَةِ الطَّاحُونَةِ، وَفِي الْحَالِ فِعْلُهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ يَدَّعِي سُقُوطَهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ حَيْثُ تَصَادَقَا أَنَّهُ فَعَلَهُ وَهُوَ قَاضٍ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ، وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ شُرُوحِ الْجَامِعِ أَنَّ الْقول لِلْقَاضِي وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرِ الشَّهِيدِ، لِأَنَّهُ بِالْإِسْنَادِ إلَى الْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلضَّمَانِ مُنْكِرٌ لِلضَّمَانِ فَالْقول قولهُ، كَمَا لَوْ قَالَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ بَعْدَ الْعَزْلِ بِعْت وَسَلَّمْت قَبْلَ الْعَزْلِ فَقَالَ الْمُوَكِّلُ بَعْدَهُ فَالْقول لِلْوَكِيلِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكًا وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيَصِيرُ مُدَّعِيًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْعِتْقِ لِرَجُلٍ قَطَعْت يَدَك خَطَأً وَأَنَا عَبْدٌ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ وَأَنْتَ حُرٌّ فَالْقول لِلْعَبْدِ وَلَا ضَمَانَ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَخَذْت مِنِّي كُلَّ شَهْرٍ كَذَا مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَقَالَ السَّيِّدُ قَبْلَهُ فَالْقول لِلسَّيِّدِ إنْ كَانَتْ الْغَلَّةُ هَالِكَةً، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَالْقول لِلْعَبْدِ، وَيَأْخُذُهُ مِنْ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ ثُمَّ بِالْإِضَافَةِ يُرِيدُ التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ فَكَانَ مُدَّعِيًا، وَكَذَا الْوَصِيُّ لَوْ ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ كَذَا وَهُوَ فِي يَدِهِ وَادَّعَى الْيَتِيمُ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ فَالْقول قول الْوَصِيِّ، ذَكَرَهُ الْمَحْبُوبِيُّ.
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ فِيمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ قَالَ لَهَا قَطَعْت يَدَك وَأَنْتِ أَمَتِي فَقَالَتْ بَلْ وَأَنَا حُرَّةٌ فَالْقول لَهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَعَ أَنَّهُ مُنْكِرٌ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلضَّمَانِ، وَلَوْ قُلْت أَقَرَّ هُنَاكَ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْقَطْعُ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ فَلَا يُسْمَعُ فَهَاهُنَا أَيْضًا أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ إقْرَارُهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ بِذَهَابِ الْعَقْلِ، وَكَذَا الْقَاضِي إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْعَزْلِ بِالْأَخْذِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ بِالْإِسْنَادِ وَكَذَا الْوَصِيُّ.
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ بِأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى جِهَةَ التَّمَلُّكِ لِنَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ لَا فِي جِهَةِ التَّمَلُّكِ، كَمَا لَوْ قَالَ أَخَذْت مِنْك أَلْفًا هِيَ دَيْنِي عَلَيْك أَوْ الْهِبَةُ الَّتِي وَهَبْتهَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ كَانَ الْقول لِلْآخَرِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَكَلْت طَعَامَك بِإِذْنِك وَقَالَ: بِغَيْرِ إذْنِي فَالْقول لِصَاحِبِ الطَّعَامِ، بِخِلَافِ الْقَاضِي وَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّهُمْ مَا ادَّعَوْا جِهَةَ التَّمَلُّكِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَكَذَا فِي دَعْوَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَا ادَّعَوْا التَّمَلُّكَ لِأَنْفُسِهِمْ لِمَا هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ فَكَانَ الْقول قولهُمْ فِي إضَافَتِهِمْ إلَى الْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُنَافِيَةِ.
قولهُ: (وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ أَوْ الْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ) وَهُوَ فَصْلُ زَعْمٍ لِمَأْخُوذٍ مِنْهُ وَالْمَقْطُوعُ أَنَّ الْقَاضِيَ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ فَأَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْقَابِضُ إنِّي فَعَلْت ذَلِكَ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَهُوَ عَلَى قَضَائِهِ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ وَالْمَقْطُوعُ يَدَهُ يَقول بَلْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ (يَضْمَنَانِ) وَلَا يَضْمَنُ الْقَاضِي (لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ) وَهُوَ مُبَاشَرَتُهُمَا الْأَخْذَ وَالْقَطْعَ (وَقَبُولُ قول الْقَاضِي) فِي ذَلِكَ (لِدَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ) بِسَبَبٍ يَخُصُّهُ وَهُوَ كَيْ لَا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِهِ فَتَضِيعُ الْحُقُوقُ وَهِيَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانُهُ عَنْ غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ.
وَقولهُ (وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْآخِذِ قَائِمًا) هَذَا قَيْدٌ فِيمَا يَلْزَمُ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ لَازِمَ كَوْنِ الْقول لِلْقَاضِي وَلِلْقَاطِعِ وَالْآخِذِ فِي صُورَةِ التَّصَادُقِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ فِي حَالَةِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ بِالْمَالِ الْمَأْخُوذِ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِنَفَاذِ قولهِ فَأَفَادَ أَنَّ ذَلِكَ: أَعْنِي عَدَمَ الرُّجُوعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ هَالِكًا، أَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا فَيُؤْخَذُ مِنْ الْقَابِضِ سَوَاءٌ صُدِّقَ الْقَابِضُ فِي أَنَّهُ أَخَذَهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ أَوْ كَذَّبَهُ وَقَالَ بَلْ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ، عَلَّلَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فَقَالَ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ، قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا أَقَرَّ بِالْأَخْذِ يَصِيرُ شَاهِدًا لِغَيْرِهِ بِالْكَلَامِ الثَّانِي، وَإِقْرَارُهُ بِالْأَخْذِ صَحِيحٌ وَشَهَادَتُهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بَاطِلَةٌ، وَلِأَنَّ الْقَابِضَ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ حَيْثُ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَقول الْمَعْزُولِ لَيْسَ بِبَيِّنَةٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَاهِدًا بِالدَّيْنِ بَلْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ الْمُنَافِي لِلضَّمَانِ.